نفقات التقاضي الرمزية اغراء للخصوم الفجرة
نفقات التقاضي الرمزية إغراء للخصوم الفجرة
ا.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
من التعاريف الجامعة للتقاضي الكيدي: أنه يتحقق حينما يتقدم المدعي بدعواه من غير أن يكون له حق أو يكون له حق تافه، وكذا يكون التقاضي كيدياً إذا كان المدعى عليه يعلم أن المدعي على حق ولكنه يتعمد من خلال التقاضي منع المدعي من الوصول إلى حقه أو جعل وصوله إلى حقه بعيد المنال، وهذا بعينه هو الفجور في الخصومة واللدد الذي يعد سبباً من أسباب تراكم القضايا في المحاكم اليمنية وإطالة إجراءات التقاضي، وهذه الحقيقة غنية عن البيان، ومن المؤكد في الشرع والقانون أن المحكوم عليه هو الذي يتحمل مصاريف التقاضي الحقيقية كاملة، لأنه المبطل الذي لم يذعن للحق الذي أمر به الشرع والقانون، ومن مكارم إخلاق اليمنيين أن العرف قد استقر في اليمن على أن الخصم المبطل أي الذي يكون غير محق في دعواه أو في رده الدعوى اي يكون على باطل في القضية فأنه يكون وحده الذي يتحمل تكاليف ومصاريف التقاضي كاملة أي تلك التي دفعها خصمه الذي هو على حق، بالإضافة إلى مصاريفه التي دفعها، ويعبر العرف اليمني الكريم عن ذلك بالقول (غرامة محق على مبطل).
وعلى نحو مختلف يذهب شراح قانون المرافعات في دول المغرب العربي كالجزائر العظيمة بالإضافة إلى شراح مصر إلى أن مصاريف التقاضي تكون رمزية ، فلا تكون على قدر المبالغ التي تكبدها بالفعل المحكوم له، ونحن لا نعارض هذا المفهوم بالنسبة لتلك الدول فنحن نحترم تلك الآراء.
أما في اليمن فأنا أعلنها صراحة وعلانية بأن القول أو الحكم بالمصاريف الرمزية منكر من المنكرات في مجال المرافعات، لأن الحكم بمصاريف رمزية وليس حقيقية فيها إغواء وإغراء وتشجيع وتحفيز للخصوم الفجرة على التمادي في دعاويهم وطلباتهم ودفوعهم ودفاعهم الكيدي.
وعلى هذا الأساس فإن الحكم بالمصاريف القضائية الفعلية التي تكبدها المحكوم له سلاح فاعل في مواجهة التقاضي الكيدي والخصوم الآلداء الفجرة، حسبما ورد في الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 14-2-2010م في الطعن رقم (38802)، وقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: ((وحيث أن الطاعنة في السبب الثاني من أسباب الطعن الجزئي تنعي على قضاء الحكم المطعون فيه مخالفة الأساس القانوني الواجب تطبيقه بتقدير نفقات الخصوم وأتعاب المحاماة والمخاسير عند رفع الدعوى وسيرها ومصاريف الإنتقال والإقامة إلى آخر ما جاء في هذا النص – ولذلك فإن هذه الدائرة تجد: أن هذا النعي وجيه ويستوجب قبوله والحكم للطاعنة بمبلغ ثلاثمائة ألف ريالاً مقابل مصاريف التقاضي شاملة للطعن بالنقض، لذلك يتعين نقض الحكم المطعون فيه جزئياً فيما يتعلق بالمصاريف القضائية فقط مع تأييد بقية فقرات منطوق الحكم المطعون فيه))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: نظرة واقعية في المصاريف التي يتكبدها المحكوم له:
المحكوم له اما أن يكون المدعي الأصلي بموجب طلباته الواردة في دعواه الأصلية وطلباته الإضافية (العارضة) ، واما أن يكون المدعى عليه بالدعوى الأصلية الذي يقدم طلباته العارضة، ومن المعلوم أن المقصود بمصاريف التقاضي: هي المبالغ التي قام المحكوم له بدفعها منذ المراحل التحضيرية لرفع الدعوى حتى الفصل فيها بحكم نهائي أو بات، وتشمل مصاريف التقاضي المبالغ التي يدفعها المحكوم له مقابل الإستشارات قبل رفع الدعوى أو تقديم طلبه العارض، فلا يعقل أن يقوم الخصم بتقديم طلب دون أن يسبق ذلك استشارته لأصحاب الإختصاص ، وبعد ذلك يقوم المحكوم له بجمع الادلة الواقعية والقانونية المؤيدة لطلبه بإعتباره الأعرف بالأدلة الواقعية (مستندات أو اسماء شهود)، فلا يعقل أن يقوم الخصم بتقديم طلبه دون أن يسبق ذلك جمع الأدلة، وبعد ذلك يقوم الخصم بدفع تكاليف تحرير وصياغة الطلب أو الدعوى أو الرد ، وبعد ذلك يقوم الخصم بتقديم الطلب بنفسه أو عن طريق محامي، ثم يدخل الخصم في دوامة الدفوع والردود والتعقيبات والتوضيحات التي تستهلك ماله ووقته وجهده ، وبعد رحلة مضنية ومكلفة يصدر الحكم الابتدائي لصالحه الذي يتضمن في منطوقه الحكم له بعشرين ألف ريالاً مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا ثم يدخل المحكوم له بعد ذلك في دوامة أخرى وهي دوامة الاستئناف والاستئناف المقابل والفرعي والدفوع والردود والجلسات وبعد وقت ومال وجهد ومعاناة يصدر الحكم الاستئنافي لصالح المحكوم له فيؤيد الحكم الابتدائي غير أن المحكوم له يدخل بعد ذلك في الدوامة الثالثة الطعن بالنقض والدفوع والردود كي تنتهي هذه الدوامة الطويلة بصدور حكم المحكمة العليا بإقرار الحكم الاستئنافي، وبحسب المؤشرات فإن هذه الرحلة الشاقة قد تستغرق سبع سنوات، وبعد أن يتحول المحكوم له أثناء رحلة التقاضي الطويلة والمجهدة والمكلفة إلى فقير معدم ، بعد ذلك يحرص الحكم على العمل بمبدأ رمزية مصاريف التقاضي الذي اقرته محكمة النقض الفرنسية فيحكم للمحكوم عليه بمبلغ رمزي!!!؟.
الوجه الثاني: مصاريف التقاضي في قانون المرافعات اليمني:
نصت المادة (261) مرافعات على أن (تقدر المحكمة نفقات الخصومة في الحكم كلما امكن ذلك وإلا قدرها رئيس المحكمة التي اصدرت الحكم بناءً على طلب المحكوم له بأمر على عريضة فيكون محتوياً على قائمة مفصلة بالنفقات المحكوم بها ولا يخضع هذا الأمر للسقوط المقرر للأوامر على عرائض).
وعند إستقراء هذا النص يظهر أنه صرح بتقدير (نفقات الخصومة) وهذا اللفظ جمع مضاف ، والجمع المضاف من ألفاظ العموم كما هو مقرر في القواعد الأصولية ، ومعنى ذلك أن تقدير نفقات التقاضي يجب أن يشمل كافة نفقات الخصومة التي انفقها بالفعل المحكوم له.
كما أن المقصود بتقدير نفقات الخصومة: هو أن يتم تقديرها في ضوء الأدلة والمستندات المؤيدة لطلب الحكم بالنفقات، ونخلص من هذا الوجه إلى القول: بأن النص القانوني السابق لم يشر إلى رمزية مصاريف التقاضي، بل على العكس من ذلك فقد صرح بشمول النفقات.
بل أن النص السابق قد أولى نفقات التقاضي عنايته البالغة حتى أنه قد اجاز المطالبة بها بأمر على عريضة.
الوجه الثالث: منطق الحق والعدل يستدعي الحكم بنفقات التقاضي الحقيقية وليس الرمزية :
الحق والعدل من اسماء الله تعالى وصفاته، فقد أراد تبارك وتعالى أن يكون مفهوم الحق والعدل هو القائم بين عباده، فالقاضي هو القائم على تطبيق الحق والعدل، فلا ينبغي أن يعدل القاضي عن حقيقة الشيء وأن يحكم بأقل منه، فالقاضي حاكم وليس مصالحاً ، فالحكم ليس فيه إسقاط للحق أو إنقاص له بخلاف الصلح، ولذلك فإذا ثبت للقاضي قدر نفقات التقاضي الفعلية فأنه ينبغي عليه أن يحكم بها، وكذا إذا قام القاضي بتقديرها فينبغي أن يقدرها على نحو مقارب للنفقات الحقيقية وليس الرمزية.
الوجه الرابع: الحكم بنفقات التقاضي سلاح فاعل في مواجهة الخصوم الفجرة في الخصومة:
من المعلوم عند المحامين في العالم اجمع أن الخصوم يحجموا عن اللجوء إلى القضاء عندما ينصحه المحامي بأنه غير محق في دعواه أو رده أو دفعه أو طلبه ، فعندما يصرح المحامي للخصم بأنه من المتوقع أن يكون الحكم ضده وأنه عندئذٍ سوف يتم الحكم عليه بكافة مصاريف التقاضي الحقيقية التي سيدفعها خصمه عند الحكم عليه، فعندئذٍ يعدل كثير من الخصوم عن اللجوء إلى القضاء ويفضلوا التصالح – وهذا هو المعوّل على قاضي التحضير والصلح الذي استحدثه القانون اليمني مؤخراً حيث سيقوم هذا القاضي بهذا الواجب وهو تبصير الخصوم ونصحهم.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الخصوم الفجرة الذين لن يذعنوا لصوت الحق سيحكم عليهم بنفقات التقاضي كاملة غير منقوصة وعندئذٍ سيحجم الخصوم الفجرة الآخرون عن أن يسلكوا مسلك سابقيهم.
فقد كانت وما زالت قاعدة (غرامة محق على مبطل) وسيلة فاعلة في مواجهة الخصوم الفجرة في العرف اليمني الاصيل، فما أحوج القضاء في اليمن للعمل بمقتضى هذه القاعدة حينما يطلب الخصم البار الحكم على الخصم الفاجر.
الوجه الخامس: الحكم بنفقات التقاضي كاملة يقلص من تراكم القضايا ويحد من التقاضي الكيدي:
من المؤشرات الخطيرة في القضاء اليمني أن هناك قضايا كثيرة يكون الحق المدعى به أو المطلوب أقل بكثير من النفقات التي تتكبدها السلطة القضائية في سبيل الفصل في هذه القضايا التافهة القيمة، فضلاً عن النفقات التي يتكبدها المحكوم له.
ومن جانب آخر فإن هناك تراكم في القضايا لدى المحاكم وتعثر الفصل فيها بسبب الدعاوى والطلبات الكيدية والدفوع والردود الكيدية، ولذلك فإن الخصم الفاجر حينما يعلم أن القاضي سيحكم عليه بنفقات التقاضي الفعلية كاملة وأن إطالة إجراءات التقاضي سيكون على حسابه ونفقته فأنه عندئذٍ سيمتنع عن التقاضي الكيدي بل أنه سوف يسارع إلى حسم القضية بالصلح أو الحكم السريع ، والله اعلم.
تعليقات
إرسال تعليق