تحديد طبيعة العلاقة التجارية في القضاء اليمني*

 *تحديد طبيعة العلاقة التجارية في القضاء اليمني*


*أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين*

*الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء*

https://am-shjaaaldeen.blogspot.com/2024/04/blog-post_22.html

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂


▪️

نتيجة العشوائية في العلاقات التجارية وعدم تنظيمها وعدم وجود عقود مكتوبة تبين طبيعة العلاقة والتزامات وواجبات وحقوق أطراف العلاقة،إضافة إلى عدم وجود نظم تحكم سير كثير من الأعمال والعلاقات التجارية في اليمن، لذلك يصعب على القاضي في اليمن تحديد طبيعة  بعض العلاقات التجارية  ومعرفة ما إذا كانت العلاقة شراكة ام وكالة ام علاقة صاحب عمل بعامل... إلخ، ومع ذلك فإن القضاء اليمني يتبع  وسائل عدة لتحديد طبيعة  العلاقات التجارية غير المنظمة حتى يتمكن القاضي اليمني من تكييف العلاقة التكييف القانوني الصحيح المطابق لواقع العلاقة، ومن أهم الوسائل الناجعة التي يتبعها القاضي في تحديد طبيعة العلاقة التجارية هي: الخبرة المحاسبية التي تستقصي تفاصيل العلاقة ودقائقها منذُ نشوئها وتبين رأس المال ومصدره والمساهمين فيه والأرباح وطريقة توزيعها وما إذا كان أطراف العلاقة يتقاضون أرباحاً أم أجوراً وما إذا كانت هذه الأجور منتظمة بصفة شهرية ام انها أرباح تدفع بصفة سنوية ام ربع سنوية وغير ذلك من التفاصيل التي تمكن القاضي من تحديد طبيعة العلاقة التجارية  تكييف وقائع النزاع التكييف القانوني الصحيح، ومن ثم تطبيق النصوص القانونية على العلاقة محل النزاع التطبيق الصحيح ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 29-1-2017م في الطعن رقم (58505)، المسبوق بالحكم الاستئنافي الذي قضى بأنه (فقد وجدت الشعبة: أن المحكمة الابتدائية قد ناقشت طبيعة العلاقة التجارية التي قامت بين طرفي الخصومة، فقد كلفت المحكمة خبيراً محاسبياً لإجراء الحساب بين الطرفين ، وقد رفع الخبير المحاسبي تقريراً تضمن الرأي الفني الذي توصل فيه إلى إعتبار المستأنف ضده وكيلاً بالعمولة للمستأنف)، وقد قضى الحكم الصادر عن المحكمة العليا بإقرار الحكم الاستئنافي وجاء ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: ((اما بشأن ما جاء في الطعن من أن المحاسب القانوني المنتدب من المحكمة الابتدائية اعتمد على كشوف من جانب واحد وهي الكشوف المقدمة من المطعون ضده، فهذا النعي غير منتج، لأن المستندات المقدمة من الطاعن أمام محكمة الاستئناف هي ذاتها المقدمة من قبل المطعون ضده أمام المحكمة الابتدائية، وقد ناقشها المحاسب القانوني، ولذلك فلا تأثير على النتيجة التي انتهى إليها المحاسب للأسباب المذكورة في الحكم الاستئنافي))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

*▪️

الوجه الأول: الوسائل التي يستعين بها القاضي في تحديد طبيعة العلاقة: التجارية:

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂


▪️

الإثبات من الناحية القانونية هو إقامة الدليل أمام القضاء بطريقة من الطرق التي نص عليها القانون،وذلك علي صحة واقعة قانونية متنازع فيها، نظراً لما يترتب علي ثبوتها من أثار قانونية، وهذا هو الإثبات بالمعني القانوني، ولهذا سمي أيضاً بالإثبات القضائي،  لأنه يتم عن طريق تقديم الدليل أمام القضاء علي حقيقة واقعة متنازع فيها، وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن (الإثبات هو إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون، فهو قوام الحق الذي يتجرد من قوته ما لم يقم الدليل عليه ). 

والحقيقة أن الإثبات ليس مقصوراً علي الالتزامات فحسب بل هو نظرية عامة شاملة تتناول مصادر الالتزام ومصادر الحق العيني ومصادر روابط الأسرة، ولا تقف عند المصادر فحسب، إذ هي تحكم أيضاً أسباب انقضاء الحقوق وكل سبب آخر ينشئ أثراً قانونياً، ويتجاوز منطقة القانون  المدني ويمتد إلي القانون التجاري وغيرهم من مناطق القوانين الأخرى،  ووسائل الإثبات التي حددها القانون هي الكتابة والشهادة) البينة والقرائن والإقرار واليمين والمعاينة والخبرة.  (مبادئ وطرق الإثبات القضائي د . حسن أبو النجا –– المكتبة القانونية ١٩٩٧ – ص ٧).

 وقد سبق القول بأن هناك وسائل عدة لتحديد طبيعة العلاقة التجارية، فوفقا للقواعد العامة يجب على المدعي أن يبين في دعواه طبيعة العلاقة التجارية التي يدعيها والا كانت دعواه  مجهولة، كما يجب عليه أن يقدم الأدلة التي تثبت العلاقة التجارية التي يدعيها، فعندئذٍ يقوم المدعي بإثبات العلاقة التي يدعيها بكافة طرق الإثبات المقررة في المادة (17) من قانون الإثبات كالاقرار والشهادة والكتابة والقرائن... إلخ، إلا أن  هذا الوضع المثالي نادر الحدوث في اليمن، حيث يعمد المدعي في دعواه إلى تسمية العلاقة بغير اسمها، وكذا يتعمد المدعي عدم تقديم الادلة كاملة ضمن ثقافة التذاكي السائدة عند الخصوم في اليمن ، كما أنه في بعض الحالات لا تتوفر الادلة لدى المدعي سيما عندما تكون المحررات المشتركة موجودة لدى المدعى عليه فينكر وجودها لديه، إضافة الى انه في حالات كثيرة لاتوجد  عقود مكتوبة بين الأطراف المتنازعة تبين طبيعة العلاقة التجارية محل النزاع، فضلا عن ان الشهادة مع أهميتها ليست وسيلة مناسبة لتحديد طبيعة العلاقة التجارية، لأن الشهادة تتعلق بمعاملة واحدة أو بعض المعاملات  بين المتنازعين وليس كل المعاملات، فالشهادة لاتكشف عن طبيعة العلاقة التجارية التي تتم خلالها آلاف المعاملات بين الأطراف المتنازعة، وعلى هذا الأساس تكون الخبرة المحاسبية هي الوسيلة الأفضل والانسب لتحديد طبيعة العلاقة التجارية. 

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

*▪️

الوجه الثاني: وجوب تحديد المحكمة لمهمة الخبير المحاسبي تفصيلاً:*

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂


▪️

من الإشكاليات القانونية والعملية أنه يرد في بعض قرارات ندب المحاسبين القانونيين تحديد مهمة الخبير المحاسبي بعبارة عامة مجملة وهي (إجراء الحساب بين الطرفين)، دون أن يتم تحديد مهمة الخبير المحاسبي تفصيلاً خلافاً لما ورد في المادة (165) إثبات التي أوجبت على المحكمة أن تحدد مهمة الخبير تحديداً دقيقاً  فقد نصت هذه المادة في منتصفها بأنه (يجب على المحكمة أن تذكر في قرارها بياناً دقيقاً لمأمورية الخبير)، علماً بأن عدم تحديد مهمة الخبير تحديداً دقيقاً يثير  إشكالية ، لأن الخصوم يفهموا من ندب المحكمة للخبير على أنه إفصاح من المحكمة عن قناعتها فيما يتعلق بدعاوى الشراكة، فندب المحكمة للمحاسب لإجراء الحساب بصفة عامة في هذه الدعاوى يعني أن المحكمة في طريقها لقبول دعوى الشراكة، في حين انه لو حددت المحكمة  مهمة الخبير في دعوى الشراكة بأن مهمته  هي مراجعة الحسابات بغرض تحديد طبيعة العلاقة بين الخصمين المتنازعين لما ثارت الإشكالية، ففي القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كان القاضي الابتدائي المحنك قد حدد مهمة الخبير المحاسبي بدقة وهي مراجعة حسابات الطرفين للوقوف على طبيعة العلاقة بينهما. 

ويخشى بعض القضاة الأعزاء من تحديد مهمة المحاسب بدقة في بعض القضايا حتى لايكون في ذلك بيان لوجهة المحكمة في القضية، لأن التحديد الدقيق لمهمة الخبير  في بعض القضايا يؤدي إلى توجيه مهمة الخبير المحاسب إلى وجهة معينة مما يؤدي إلى أن تكون نتيجة أعمال الخبرة محددة سلفاً. 

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

*▪️

الوجه الثالث: دور الخبرة المحاسبية في تحديد طبيعة العلاقة التجارية:*

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂


▪️

العلاقات التجارية متعددة ومتنوعة ومتداخلة ، وتحديدها ليس بالأمر الهين، ولذلك فان تحديد طبيعة العلاقة التجارية مسألة فنية دقيقة في بعض الأحيان تحتاج إلى ندب خبير لمراجعة النظم والمستندات والمراسلات المتبادلة بين الخصوم لتحديد طبيعة العلاقة القائمة بين المتنازعين، وبيان ما إذا كانت هذه العلاقة شراكة نظامية أم عرفية أم علاقة صاحب عمل بعامل أم علاقة موكل بوكيل وهكذا. 

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

*▪️

الوجه الرابع: أهمية تكليف المحكمة للخبير لتحديد طبيعة العلاقة التجارية:*

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂


▪️

بعد أن يستكمل القاضي دراسة أوراق القضية ينبغي عليه أن يقوم بتكييف وقائع القضية ، والتكييف  هو إطلاق التسمية القانونية على الواقعة أو وقائع النزاع أو التصرف محل النزاع، ويتعذر على القاضي مباشرة عملية التكييف دون أن يسبق عملية التكييف بيان نوع العلاقة التجارية وتحديد طبيعتها عن طريق أعمال الخبرة المحاسبية الفنية التي تحدد طبيعة العلاقة التجارية القائمة بين الطرفين المتنازعين، فعملية التكييف تكون تالية لبيان الخبير المحاسبي لطبيعة العلاقة التجارية، إذ يستفيد  القاضي عند تكييفه لوقائع النزاع يستفيد من النتيجة التي يتوصل إليها الخبير المحاسبي الفني المكلف بتحديد طبيعة العلاقة.

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂

*▪️

الوجه الخامس: حرية الإثبات في المسائل التجارية  بما في ذلك إثبات طبيعة العلاقة التجارية:*

▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂


▪️

ذكرنا فيما سبق أن إثبات طبيعة العلاقة التجارية القائمة بين الطرفين المتنازعين يجوز اثباتها  بكافة طرق الإثبات عملا بمبدأ حرية الإثبات في المسائل التجارية الا ان إثبات طبيعة العلاقة التجارية عن طريق الخبرة المحاسبية تعطي القاضي صورة واضحة ودقيقة ومتكاملة عن طبيعة تلك العلاقة فتطمئن عقيدة القاضي وتركن إلى النتيجة التي يخلص إليها الخبير المحاسبي ، بيد ان ذلك لا يمنع الخصوم من إثبات العلاقة التجارية المدعى بها باي طريقة عملا بمبدأ حرية الإثبات في المسائل التجارية، ولذلك نجد انه من المناسب الإشارة بايجاز إلى مبدأ حرية الإثبات في المسائل التجارية حسبما عرضه الدكتور المبدع عصام حنفي في كتابه القيم (القانون التجاري) حتى تكتمل الفائدة من هذا التعليق الموجز. 

فنظراً للطبيعة الخاصة للمعاملات التجارية  فإنها تخضع لمبدأ حرية الإثبات، فيجوز الإثبات في الالتزامات التجارية بكافة طرق الإثبات القانونية، حيث يجوز الإثبات بغير الكتابة ، كما يجوز إثبات ما يخالف أو ما يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي بغير الكتابة، غير أنه بالنسبة لليمن فقد استقر قضاء المحكمة العليا على أنه ماثبت كتابة لايدحض الا كتابة، كما يجوز الاحتجاج بتاريخ المحرر العرفي علي الغير دون اشتراط ثبوت التاريخ، وقد قنن القانون التجاري المصري هذه الأحكام حيث نصت المادة ٦٩ من قانون التجارة علي أنه:

١- يجوز إثبات الالتزامات التجارية أيا كانت قيمتها بكافة طرق الإثبات ما لم ينص القانون علي غير ذلك .

٢- فيما عدا الحالات التي يوجب فيها القانون الإثبات بالكتابة في المواد التجارية يجوز في هذه المواد إثبات عكس ما اشتمل عليه دليل كتابي أو إثبات ما يجاوز هذا الدليل بكافة الطرق .

٣- تكون الأوراق العرفية في المواد التجارية حجة علي الغير في تاريخها ولو لم يكن هذا التاريخ ثابتاً، ما لم يشترط القانون ثبوت التاريخ، ويعتبر التاريخ صحيحاً حتي يثبت العكس" . والمقصود بالإثبات بكافة طرق الإثبات أنه يمكن للأطراف أن يلجأوا في إثبات الالتزام التجاري إلي شهادة الشهود أو الإقرار أو القرائن أو غيرها من طرق الإثبات، فمتي كنا بصدد حالة لم يشترط القانون التجاري إثباتها بالكتابة تساوت طرق الإثبات جميعاً أمام القاضي، وأصبح الأمر متروكا لتقديره، ومن الأعمال التجارية التي أجازت محكمة النقض المصرية إثباتها بكافة طرق الإثبات ما قضت به" من أن إثبات النقص غير المبرر في مقدار البضاعة المنفرطة أو في عدد الطرود المفرغة، جائز بكافة الطرق" . 

ويتضح من ذلك أن المقصود بحرية الإثبات في المعاملات التجارية وإجازتها بكافة الطرق، أن الشخص لا يلزم بتقديم دليل كتابي، ولكن يجوز له الإثبات بكل الطرق كالشهادة أو القرائن، ويقوم الإقرار واليمين مقام الدليل المكتوب، لذلك يجوز للشخص الاحتجاج بها في الإثبات من باب أولى، فقد ذهبت محكمة النقض إلي أن الإقرار هو اعتراف الشخص بواقعة من شأنها أن تنتج ضده أثاراً قانونية، مؤداه نزول المقر عن حقه في مطالبة خصمه بإثبات ما يدعيه، أثره حسم النزاع في شأن الواقعة المقر بها وأخذ القاضي بها واقعة ثابتة" ، كما أضافت في ذات الحكم أن استخلاص الإقرار بالحق أو نفيه من شئون محكمة الموضوع"  كما قضت المحكمة أيضاً بأن الإقرار غير القضائي المثبت في ورقة عرفية موقع عليها من المقر  حجة عليه وعلي خلفه العام أثره لا يحق لأي منهما التنصل منه بإرادته المنفردة إلا لمبرر قانوني"  وفي اليمين كطريق من طرق الإثبات قضت محكمة النقض بأن اليمين ماهيتها قد تكون قضائية أو غير قضائية، فاليمين غير القضائية التي تتم باتفاق الطرفين في غير مجلس القضاء تعتبر نوعاً من التعاقد يخضع في إثباته للقواعد العامة، ويعد حلفها واقعة مادية تثبت بالبينة والقرائن،"  كما قضت أيضاً بأن "تقبل البينة والقرائن لإثبات ما يخالف ما جاء في العقد التجاري المكتوب" .وحكمت أيضاً بأن " تقدير أقوال الشهود والقرائن استقلال محكمة الموضوع به دون معقب متي كان سائغاً"، وأضافت بأن " تقدير أقوال الشهود مرهون بما يطمئن إليه وجدان القاضي" . وفي المعاملات التجارية لا توجد قيود علي حد الإثبات الكتابي، فيمكن الإثبات بالكتابة أيا كانت قيمة التصرف وإذا لم توجب الكتابة أمكن الإثبات بأي دليل أخر مثل شهادة الشهود أو القرائن أو الإقرار أو اليمين أو المعاينة أو الخبرة، والحقيقة أنه لا خلاف في أن الدليل الكتابي في الالتزامات التجارية أقوي من البينة في إقناع القاضي بحقيقة المقصود، وإن كان يجوز للطرف الثاني أن يثبت ما يخالف الدليل الكتابي بكل دليل من أدلة الإثبات الأخرى، كما أن القاضي التجاري يتمتع عند نظر الدعوي الناشئة عن التزام تجاري بحرية أكثر شمولاً واتساعاً، حيث يملك الأخذ بالدليل المقدم من الدعوي أو طرحه جانباً أو أن يطلب تكملته بدليل أخر، فقد قضت محكمة النقض المصرية بأن " التحقيق الذي يصبح اتخاذه سنداً أساسياً للحكم شرطه سماع الشهود أمام الخبير عدم اعتباره تحقيقاً بالمعني المقصود الاهتداء به كقرينة تعزز أدلة أو قرائن أخري"  كما وضحت محكمة النقض موضوع الإثبات في المعاملات التجارية بقولها أن إثبات وجود ديون تجارية وانقضائها في علاقة المدين بالدائن الأصلي طليق من القيود التي وضعها الشارع لما عداها من ديون، فيجوز الإثبات في المواد التجارية – إلا ما استثني بنص خاص – بكافة طرق الإثبات القانونية حتي لو أنصرف الإثبات إلي ما يخالف ما هو ثابت بالكتابة"  . 

وقد قدم بعض الفقهاء تعليلاً لقاعدة حرية الإثبات في المعاملات التجارية، بأن هذا الأمر يتفق مع طبيعة المعاملات التجارية التي تتميز بالسرعة والثقة الائتمان، والتي يجب علي المشرع أن يهيئ لها الجو المناسب الذي لا يتقيد فيه التاجر بالشكليات التي يتم تطبيقها على  المعاملات المدنية، فليس من المتصور أن يكتب التاجر عقداً في كل عملية تجارية مهما بلغت قيمتها، أو أن يتوجه في كل عقد إلي الجهات الرسمية لإثبات تاريخ العقود حتي تسري علي الغير. 

وإذا كان الأصل أن الإثبات في المعاملات التجارية يكون جائزاً بكافة طرق الإثبات، إلا أن هذا المبدأ ليس مطلقاً، وإنما ترد عليه نوعين من الاستثناءات، أول هذه الاستثناءات يتمثل في أن المشرع يستوجب في بعض  العقود التجارية أن تكون مكتوبة مثل عقد بيع ورهن المحل التجاري وعقد نقل التكنولوجيا وعقد الشركة، وعقد بيع السفينة، كما أن هناك بعض الأعمال التجارية التي يتطلب المشرع التجاري فيها شكلاً معيناً مثل الكمبيالة والسند لأمر الشيك أما الاستثناء الثاني فهو إعطاء الطرفين حرية الاتفاق علي طريقة معينة لإثبات المعاملة التجارية بينهما، فلا يمنع من الاتفاق علي أن يكون الإثبات بالكتابة إذا رأي الطرفان تنظيم الإثبات على هذا النحو في حالة قيام نزاع بينهما، لأن قواعد الإثبات لا تتعلق بالنظام  العام، وإذا تعلق الأمر بعمل مختلط بين تاجر وغير تاجر، فإن الإثبات بالطرق التجارية جائز في مواجهة الخصم الذي يعتبر العمل بالنسبة إليه تجارياً أما عن الطرف الذي يعتبر العقد مدنياً بالنسبة إليه، فالأصل أن الإثبات عليه يكون خاضعاً للقواعد المقررة في القانون المدني ٠ ومع ذلك فإن القضاء يمكن التاجر من إقامة الدليل علي خصمه غير التاجر بكافة الطرق مهما كانت قيمة النزاع، علي اعتبار أنه يوجد بين التاجر وعملائه من الاعتبارات الأدبية ما يمنعه من اقتضاء الدليل الكتابي، وهذه مسألة  موضوعية يترك تقديرها لقاضي الموضوع بحسب ظروف كل حالة، ويجوز قبول الدفاتر التجارية للإثبات في الدعاوي المقامة من التجار أو المقامة عليهم متي كانت متعلقة بأعمالهم التجارية، فقد نصت المادة ٧٠ من قانون التجارة المصري رقم ١٧ لسنة ١٩٩٩ علي أنه " يجوز قبول الدفاتر التجارية للإثبات في الدعاوي المقامة من التجار أو المقامة عليهم متي كانت متعلقة بأعمالهم التجارية، وذلك وفقاً للقواعد الآتية:

أ- تكون البيانات الواردة بالدفاتر حجة علي صاحبها، ومع ذلك لا يجوز لمن يزيد أن يستخلص من هذه الدفاتر المطابقة لأحكام القانون دليلاً لنفسه أن يجزئ ما ورد بها من بيانات .

ب-تكون البيانات الواردة المطابقة لأحكام القانون حجة لصاحب هذه الدفاتر علي خصمه التاجر، إلا إذا نقضها الخصم ببيانات واردة بدفاتره المطابقة لأحكام القانون أو أقام الدليل بأي طريق أخر على عدم صحتها .

ج. إذا كانت دفاتر كل من الخصمين مطابقة لأحكام القانون وأسفرت المطابقة بينها علي تناقص بياناتها، وجب علي المحكمة أن تطلب دليلاً أخر .

د- إذا اختلفت البيانات الواردة بدفاتر الخصمين وكانت دفاتر أحدهما مطابقة لأحكام القانون ودفاتر الأخر غير مطابقة، فالعبرة بما ورد بالدفاتر المطابقة إلا إذا أقام الخصم الدليل علي خلاف ما ورد بها، ويسري هذا الحكم إذا قدم أحد الخصمين دفاتر مطابقة ولم يقدم الآخر  أية دفاتر" .

والملاحظ أن إجازة القانون التجاري لقبول الدفاتر للإثبات في الدعاوي التجارية المقامة من التجار أو المقامة عليهم متي كانت متعلقة بأعمالهم التجارية، إنما يخالف القاعدة الأصولية الثابتة في المعاملات المدنية من أنه لا يجوز إجبار المدين علي تقديم دليل ضد نفسه، ولا يجوز للشخص أن يصطنع دليلاً لمصلحة نفسه يحتج به علي الغير،ولا تعتبر الدفاتر التجارية حجة في الإثبات إلا إذا كانت مطابقة لأحكام القانون أي دفاتر منتظمة، وقد قضت محكمة النقض بأن "مناط تطبيق قاعدة عدم تجزئة الإقرار وأعمالها في شأن ما يرد بدفاتر التجار من  قيود وبيانات هو أن تكون الدفاتر منتظمة ومؤيده بالمستندات الدالة علي صحة القيود والبيانات الواردة فيها وأماناتها" ، وحتي في حالة انتظام الدفاتر فإنه لا تكون لها حجية مطلقة وإنما حجية نسبية حيث يجوز للخصم نقض البيانات الواردة في الدفاتر وإقامة الدليل بأي طريق أخر علي عدم صحتها . وقبول الدفاتر التجارية للإثبات في الدعاوي المقامة علي التجار أو المقامة منهم والمتعلقة بأعمالهم التجارية أمراً جوازياً للمحكمة سواء كانت الدفاتر منتظمة أو غير منتظمة، إذ للمحكمة أن تطرح الدفاتر جانباً وتلزم الخصوم بتقديم أدلة أخرى، فقد قضت محكمة النقض بأن  "الاستدلال علي التاجر بدفاتره جوازي للمحكمة". (القانون التجاري، د. عصام حنفي محمود، 1/37). والله اعلم.

https://t.me/AbdmomenShjaaAldeen

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جريمة خيانة الامانة في القانون اليمني

إستئناف قرارات النيابة العامة

قــرار جمهوري بقانون رقم (14) لسنة 2002م بشــأن قانون مدني