ضوابط استخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية من الأحكام القضائية الصادرة من المحكمة العليا

 ♦️ضوابط استخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية من الأحكام القضائية الصادرة من المحكمة العليا♦️


✒️القاضي مازن أمين الشيباني.


من الأفضل في بداية هذا البحث المتواضع أن نبدأ بتعريف (القاعدة القانونية) من جهة وتعريف (المبادئ القضائية) من جهة أخرى المستخلصة من أحكام المحكمة العليا حتى يسهل لنا التفريق بين القاعدة القانونية والمبدأ القضائي، ولن نعرف القاعدة القانونية بمعناها العام، بل حديثنا مخصص هنا في القاعدة القانونية التي تستخلص من الحكم القضائي، ونفصل الحديث على عدة محاور كالآتي:


❇️المحور الأول: الفرق بين القاعدة القانونية والمبدأ القضائي


👈🏼 أولاً: تعريف القاعدة القانونية المستخلصة من الحكم القضائي:


القاعدة القانونية في هذا المقام تعني الحكم الذي يحمله نص قانوني محدد والذي يصدر به حكما قضائيا يقره ويؤكد عليه بعد ذلك، فالحكم القضائي عندما يحسم مسألة ما بالإستناد الى نص وارد في التشريعات القانونية فإن هذا الحكم يكون مقرراً لقاعدة قانونية موجودة بالفعل من سابق، اللهم أن الحكم بين كيفية تطبيق هذا الحكم على أرض الواقع، وعلى سبيل المثال، القاعدة القانونية التي تقول ((تشريف الحكم الابتدائي والقنوع به يجعل الطعن فيه غير جائز)) طعن رقم (27128) لسنة 1428هـ جلسة 3/2/2007م (جزائي) أو القاعدة القانونية التي تقضي بأن ((الدفع بعدم الاختصاص المكاني يجب أن يبدى من المدعى عليه مع سائر الدفوع الشكلية قبل التكلم في موضوع الدعوى وليس للمحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها بعدم اختصاصها مكانياً)) طعن رقم (24457) لسنة 1426هـ جلسة 21/11/2005 (تجاري)، هذه قواعد قانونية كرستها نصوص قانونية، فالقاعدة الأولى هي تطبيق عملي لنص المادة (273) من قانون المرافعات والتي نصت بقولها ((لا يجوز أن يطعن في الأحكام الا المحكوم عليهم، ولا يجوز أن يطعن فيها من قبل الحكم صراحة في محضر الجلسة أو في جلسة لاحقة أو ممن قام بتنفيذ الحكم من تلقاء نفسه))، والقاعدة القانونية الثانية هي تطبيق عملي لنص المادة (181) مرافعات التي نصت بقولها (( يسقط الحق في الدفع بعدم الاختصاص المكاني وفي الدفع ببطلان الاعلان .... وكذلك سائر الدفوع المتعلقة بالاجراءات إذا لم تبد جميعها أو ما يراد ابدءه منها دفعة واحدة قبل الدخول في الموضوع))، فالحكم القضائي لا يتضمن هنا أي اجتهاد قضائي جديد بل يقرر حكم نص قانوني موجود وقائم، ولذك فإن خصائص القاعدة القانونية باختصار شديد ما يلي:- 

(1)         أن الحكم القضائي يكون كاشفاً ومقرراً للقاعدة وليس منشئا لها.

(2)         لا يجوز العدول عن القاعدة القانونية التي قررها الحكم القضائي، ويعتبر عدم الأخذ بالقاعدة القانونية، علاوة على كونه مخالفة للقاعدة نفسها فإنه يعد مخالفة صريحة للقانون الذي تضمنت نصوصه هذه القاعدة.

(3)         أن القاعدة القانونية لا توصف أبداً بالسابقة القضائية..

هذه أهم ميزات القاعدة القانونية.


👈🏼ثانياً: تعريف المبدأ القضائي:


المبدأ القضائي هو عبارة عن اجتهاد قضائي يعالج مسألة لم ينظمها القانون، أو نظمها القانون بنص معين إلا أنه نص غامض وفيه لبس، هنا يجتهد القضاء في حكم هذه المسألة أو يجتهد في تفسير النص القانوني الغامض وهنا يعبر عن اجتهاد القضاء بمصطلح (مبدأ قضائي) وذلك مثل المبدأ الصادر في الطعن رقم (11661) لسنة 1420هـ جزائي والذي يقضي بأن (الحالة النفسية ليست من أسباب انعدام المسئولية الجزائية)، فلا يوجد نص قانوني حدد ماهية الحالة النفسية وأثرها على المسئولية الجزائية كون المادة (33) عقوبات قضت بأن المسئولية تنتفي اذا كان الجاني وقت ارتكاب الفعل عاجزاً عن ادراك طبيعة أفعاله بسبب الجنون أو العاهة العقلية، ولم تتحدث عن المرض النفسي، فاجتهد القضاء واعتبر المرض النفسي لا ينفي المسئولية الجزائية، وكذا المبدأ القضائي الذي يقضي بأن (التحكيم في دعوى المطالبة بالأرش جائز لصفتها المدنية) طعن رقم 30865 لسنة 1428هـ ، وكذا المبدأ القضائي الذي يقضي بأن (اجراء المعاينة عن طريق محكمة أخرى غير التي تنظر النزاع باطل) طعن رقم 30721لسنة 1428هـ وغيرها من المبادئ القضائية التي تقرر حكماً لم يرد به نصاً قانونياً أو ورد به نصاً قانونياً ولكن هذا النص يكتنفه الغموض، فيجتهد القضاء ويبين حكم المسألة أو يجتهد في تفسير النص الغامض ولذلك فإن المبادئ القضائية تتسم بالميزات الآتية:

(1)         أنها تنشئ بإجتهاد القضاء وليس بتطبيق نص قانوني.

(2)         أنها تنشئ حكماً للمسألة محل النظر ابتداءً لم يكن هذا الحكم موجوداً من سابق، ولذلك يطلق على الاجتهاد القضائي الذي يطبق لأول مرة بمصطلح (سابقة قضائية).

(3)         لا تعد المبادئ القضائية سوابق قضائية  بعد تكرار تطبيقها والعمل بها الا عند تغير الاجتهاد والعدول عنه، فيعتبر الاجتهاد الجديد هو السابقة القضائية.

(4)         يجوز العدول عن المبادئ القضائية وتغييرها وفقاً لما يستقر في وجدان هيئة الحكم.

(5)         لا يجوز أن يكون المبدأ القضائي مخالف لنص قانوني صريح.

هذه هي سمات المبادئ القضائية، وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن ننتقل للمحور الثاني وهو محور قيود استخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية من أحكام القضاء نبينه في المحور الثاني:


❇️المحور الثاني: قيود استخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية:


هناك مجموعة من القيود التي يجب أن يتقيد بها من يقوم باستخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية من أحكام المحكمة العليا وهي كالآتي:


1-  القيد الأول: وجوب التفرقة بين القاعدة والمبدأ القضائي، لا يجوز أن يقوم باستخلاص القواعد القانونية والقضائية من لا يستطيع التفرقة بينهما، لأن القاعدة القانونية تستند لنص قانوني معين، بينما المبدأ القضائي يستند لإجتهاد، ومن يقوم بالاستخلاص يجب أن يعرف أن هذا الحكم استند لنص قانوني وهذا قام على أساس اجتهاد قضائي، والقدرة على التفريق تنعكس بشكل ايجابي على صياغة القواعد ولغتها وبنائها وترتيبها.

2-  القيد الثاني: لا يجوز استخلاص قاعدة قانونية أو مبدأ قضائي يخالف نصاً قانونياً قائماً، وهذا القيد هو نتيجة من نتائج ضرورة معرفة القاعدة القانونية التي تستند لنص قانوني، فلا يجوز أن ترد قاعدة قانونية تخالف النص القانوني الذي نظم المسألة محل النظر، وقد سبق أن ضربنا أمثلة لذلك مثل القاعدة التي قضت بأن (دعاوى القسمة ينعقد الاختصاص في نظرها لقضاء الأحوال الشخصية وليس للقضاء المدني) فهذا المبدأ يخالف نصوص قانونية صريحة كون توزيع القضايا في إطار المحكمة الواحدة لا يعد اختصاص بل هو توزيع إداري، فيجوز للقاضي المدني ان ينظر دعوى القسمة، وذلك أنه لا يوجد قرار بإنشاء قضاء للأحوال الشخصية يحدد اختصاصه وولايته، وكذلك قضايا الأوقاف صدرت عدة أحكام تقرر ان الاختصاص بنظرها لقضاء الأحوال الشخصية وأن هذا الاختصاص يتعلق بالنظام العام!!، وهذا خطأ، لأنه لا يجوز الحديث عن الاختصاص النوعي في هذه الحالة لسببين (الأول) أنه لا يوجد توزيع اختصاص بين قضاة المحكمة الواحدة وانما توزيع اداري فيكلف قاضي لنظر القضايا الجزائية وآخر للقضايا المدنية وآخر لقضايا الأحوال الشخصية، فإذا تنحى أحدهم جاز لرئيس المحكمة أن ينظرها أو يحيلها للقاضي الآخر وان كان ينظر قضايا أخرى، وهذا قرره نص قانوني واضح وهو نص المادة (91) مرافعات والتي نصت بقولها (مع مراعاة ما ورد في قانون السلطة القضائية لا يعد الاختصاص النوعي أمام المحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة فيما يرفع أمامها من الدعاوى من النظام العام) وهذا المبدأ يخالف نصاً قانونياً واضحاً (الثاني) أنه لا يتم الحديث عن الاختصاص النوعي المتعلق بالنظام العام الا للقضاء القاصر الذي ينشأ بقرار من مجلس القضاء الأعلى، مثل المحاكم التجارية والمحكمة الإدارية، فإذا رفعت دعوى تجارية أمام المحكمة الإدارية  بالأمانة قيل هنا لا يجوز للقضاء الإداري النظر في دعوى تجارية والاختصاص هنا مرتبط بالنظام العام، لأن المحكمة المرفوعة أمامها الدعوى اختصاصها قاصر واختصاصها محدد بقرار انشائها، أما أن يقال ذلك في قضية مرفوعة أمام جهة القضاء العادي فهذا غير صحيح، وهذا القيد يعني أنه يجب فيمن يقوم باستخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية أن يكون على مستوى عالي من المعرفة والإلمام بالنصوص القانونية في مختلف فروع القانون وأن يكون قد مارس العمل القضائي فعلا في الميدان.

3-  القيد الثالث: تحري الدقة في استخدام اللغة القضائية، فللقضاء لغته الخاصة، فلغة القضاء واضحة جازمة دقيقة مختصرة، ولذلك يجب أن يصاغ المبدأ أو القاعدة بصورة أقرب ما تكون فيه لمنطوق الحكم، (وضوح اختصار المام وجزم ) لذلك من الخطأ أن تصاغ القاعدة الصادرة في الطعن رقم 21640 لسنة 1426 (تجاري التي قضت بأن (يوم الجمعة من كل أسبوع يدخل ضمن العطلات الرسمية التي توقف المواعيد) هذه الصيغة ركيكة وكان بالإمكان أن تصاغ بالقول ( يوم الجمعة يوقف المواعيد ) فقط، وكذا القاعدة الصادرة في الطعن رقم (22096) لسنة 1426هـ والتي قالت ( الصلح عارض لسير الخصومة ينهيها دون حكم متى وقع صحيحاً ويترتب عليه عدم جواز الاستمرار في الخصومة ) فكان بالإمكان صياغتها بالقول ( الصلح الذي لا يخالف القانون يترتب عليه انهاء الخصومة) أو المبدأ الوارد في القاعدة الصادرة في الطعن رقم (22686) لسنة 1426هـ والتي قضت بأن ((على المحكمة أن تبحث في نطاق سلطتها الموضوعية عن وجود التشابه بين العلامتين في العناصر المكونة لها وهل يعتبر ما قامت به المطعون ضدها من قبيل الاعتداء على العلامة التجارية والذي قد يؤدي الى اللبس والخلط أولاً وإلا تعرض الحكم للنقض)) مثل هذه القاعدة يمكن صياغتها بشكل أفضل كأن يقال (( عدم قيام محكمة الموضوع ببحث التشابه بين العلامتين التجاريتين وتحقيق تشابههما أو اختلافهما يعرض الحكم للنقض))، وغيرها الكثير من القواعد والمبادئ التي لا توجد دقة في صياغتها.

4-  وجوب التفرقة بين الأحكام الاجرائية والأحكام الموضوعية، وكذا الأحكام التي تصدر بعدم قبول الطعن شكلاً أو الحكم برفض الطعن موضوعاً وتأييد الحكم المطعون فيه، أو الحكم بنقض الحكم المطعون فيه، لأن التفرقة بين طبيعة الأحكام تحدد طبيعة المبادئ التي يمكن استخلاصها، ومصدر القاعدة المباشر فلا يتصور أن يتم استخلاص مبادئ موضوعية من حكم قضى بعدم قبول الطعن شكلاً، ولا يتصور استخلاص مبدأ قضائي موضوعي من حكم صادر عن المحكمة العليا قضى بتأييد حكم محكمة الاستئناف، لأن المبدأ في هذه الحالة سيكون مصدره حكم محكمة الاستئناف وليس حكم المحكمة العليا كون حكم المحكمة العليا إنما قضى بتأييد ما قرره الحكم المطعون فيه، فيكون مصدر القاعدة أو المبدأ هو حكم محكمة الاستئناف لا حكم المحكمة العليا.

هذه أهم القيود التي يجب أن يتقيد بها من يقوم باستخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية من أحكام المحكمة العليا.


❇️المحور الثالث:  مراحل استخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية:


هناك مراحل يجب العبور من خلالها للوصول الى صياغة القاعدة القانونية أو المبدأ القضائي صياغة سليمة ودقيقة وهذه المراحل هي:


1️⃣المرحلة الأولى: القراءة الأولية للأحكام:

هذه أول مرحلة وأهمها، لأن من يقوم باستخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية لا يختار أحكاما عشوائية بل يجب عليه أن يقرأ اكبر قدر من الأحكام، وقراءة الأحكام تستتبع ضرورة فهم ما جاء فيها وبعد ذلك يتم اتخاذ القرار بشأنها وأيها صالح لاستخلاص قاعدة قانونية منه وأيها لا يصلح


2️⃣المرحلة الثانية: اختيار الأحكام التي سيتم استخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية منها والاختيار يقوم على أساس عدة معايير أهمها:

1-  اختيار الأحكام التي تقر قواعد قانونية مستمدة من نصوص معطلة وذلك لتفعيلها في نطاق المحاكم الأدنى درجة،

2-  اختيار الأحكام التي تحسم مسألة قانونية يثور حولها الخلاف والجدل.

3-  إختيار الأحكام التي تتضمن اجتهاد قضائي في مسائل لم ترد بها نصوص قانونية ولم يسبق نشرها من قبل، ليعتبر بذلك سابقة قضائية.

4-  إختيار الأحكام التي تتضمن اجتهاداً قضائياً في تفسير نص قانوني غامض ولم يسبق نشره ليعتبر بذلك سابقة قضائية.

5-  إختيار الأحكام التي توحد العمل بنص قانوني تضاربت المحاكم الأدنى درجة في تطبيقها.

6-  اختيار الأحكام التي تتضمن الغاءً لمبادئ قضائية سابقة وإقرار لمبادئ قضائية جديدة.

7-  اختيار الأحكام التي صدرت بإجماع أعضاء الهيئة القضائية التي نظرت القضية أو بأغلبيتها الساحقة (على الأقل).

8-  أختيار الأحكام التي تتضمن قواعد عامة ومجردة يمكن أن تنطبق على كافة القضايا ذات الظروف المشابهة وطرح الأحكام التي تتضمن رأيا يخص هذه القضية وحدها بسبب ظروف معينة وردت فيها.


3️⃣المرحلة الثالثة: القراءة الدقيقة للأحكام المختارة مع الأحكام السابقة لها:

بعد أن يتم اختيار مجموعة من الأحكام القضائية التي سيتم استخلاص القواعد القانونية والمبادئ القضائية منها يتم إعادة قراءتها مع قراءة الأحكام السابقة عليها للإحاطة بكافة عناصر النزاع وظروفه وملابساته وفهم وقائع النزاع من أوله لمنتهاه، فأحياناً قد توجد ظروف موضوعية واقعية في حكم محكمة الاستئناف أو المحكمة الابتدائية تؤثر على قناعة المحكمة العليا بصورة لا تظهر في حيثيات حكم المحكمة العليا باعتبارها محكمة قانون كأصل عام لا تناقش مسائل موضوعية، إلا أن تلك الظروف الواقعية أثرت على عقيدة المحكمة العليا بصورة جعلتها تصدر حكمها على نحو معين، وهذه القراءة لابد أن تتبعها الخطوات الآتية:

(أ‌)            تحديد موضوع الحكم هل هو دعوى اخلاء أو فسخ عقد زواج أو دعوى شفعة أو جريمة قتل أو قسمة تركة ....الخ.

(ب‌)       تحليل الحكم ومعرفة أفكاره الرئيسية، ويكون ذلك بمعرفة طلبات الخصوم المتقابلة، ما هي الطلبات التي طلبها الخصوم أمام المحاكم الأدنى درجة وأمام المحكمة العليا، وأحيانا ترتبط أفكار الحكم بمسائل أثارتها المحكمة من تلقاء نفسها لتعلقها بالنظام العام، فينبغي الانتباه لها باعتبارها من أفكار الحكم الرئيسية.

(ت‌)       تحديد المسائل الخلافية التي حسمها الحكم ووجه الرأي في كل مسألة خلافية وردت فيه، بعد معرفة طلبات الخصوم المتقابلة يتم الوقوف على الرأي الذي استقر عليه الحكم في هذه الطلبات المتقابلة والتي تعبر عن المسائل الخلافية بين الأطراف، فيتم النظر ما هو رأي المحكمة بشأن طلب المدعية فسخ الزواج وطلب المدعى عليه إرجاع الزوجة لمنزل الزوجية.

(ث‌)       معرفة الأسباب القانونية التي قام عليها الرأي في الحكم وهل يستند لنصوص قانونية أم اجتهاد قضائي، 


4️⃣المرحلة الرابعة: استنباط القاعدة القانونية أو المبدأ القضائي:

بعد قراءة الحكم قراءة مركزه ومعرفة ظروف القضية وملابساتها وتحديد الأفكار التي تضمنها الحكم تأتي مرحلة استنباط القاعدة القانونية أو المبدأ القضائي، فبعد القراءة التي أشرنا لعناصرها سابقاً يتوجه القارئ الى معرفة التسبيب الذي أعطته المحكمة لكل فكرة من أفكار الحكم ويستخرج منها قاعدة قانونية أو مبدأً قضائياً، وبهذا تكون أسباب الحكم ومنطوقه هما الأساس في عملية استنباط المبدأ القانوني أو القضائي، وهذا يعني أن كل فكرة تناقشها المحكمة وتضع لها حلاً قانونياً يمكن أن تشكل مبدأ قانونيا أو قضائياً.


❇️المحور الرابع: صياغة القاعدة القانونية والمبدأ القضائي:

إن الهدف من صياغة القاعدة القانونية أو المبدأ القضائي هو اعطاء حكم لمسألة معينة دقيقة تغني المطلع عن العودة الى ملف القضية الذي صدرت فيه هذه القاعدة، فتكون القاعدة القانونية أو المبدأ القضائي كافي بذاته لمعرفة حكم مسألة ما معينة دون أن تستدعي العودة الى ملف القضية لمعرفة تفاصيله، وبالتالي يجب أن تصاغ القاعدة أو المبدأ صياغة بسيطة وسهلة وغير معقدة ويجب في هذه المرحلة مراعاة الضوابط الآتية:

(1)         ألا تكون صيغة القاعدة القانونية أو المبدأ القضائي مجرد نقل لنص قانوني، مثل القاعدة التي تقول (لا يضار الطاعن بطعنه) أو القاعدة التي تقول (الاختصاص النوعي يتعلق بالنظام العام) أو القاعدة التي تقول (الدفع بسبق الفصل من الدفوع المتعلقة بالنظام العا) فهذا نقل حرفي لنصوص قانونية وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها قواعد قانونية أو مبادئ قضائية.

(2)         يجب أن تتكون القاعدة القانونية أو المبدأ القضائي من شقين رئيسين وهما (المشكلة وحلها ) أو ( الخطأ وحكمه) أو (النص وكيفية تطبيقه) ( أو الإجراء المتخذ بصورة ما وحكمه ) وهكذا أي قاعدة قانونية أو مبدأ قضائي، وهذا يعني أن القاعدة القانونية أو المبدأ القضائي يجب أن يتضمن مسألة واقعية من جهة والرأي القانوني أو القضائي فيها من جهة أخرى، ما يعني وجوب اشتمال القاعدة على واقع وعلى قانون، وهذا لا يعني أن المحكمة العليا أصبحت محكمة موضوع، وإنما ينظر الى الواقع هنا على افتراض صحته طبقاً لقناعة محكمة الموضوع، فإذا كانت محكمة الاستئناف قد استمعت لشهود واقعة سرقة المنزل وأقرت صحة تلك الشهادة وحكمت بإدانة المتهم ثم تم الطعن أمام المحكمة العليا فإن المحكمة العليا هنا لا تتدخل في قناعة محكمة الاستئناف بل تأخذ واقعة دخول المنزل مفترضة صحتها وتقرر بعد ذلك ما تراه متفقاً مع القانون في حكم هذه الواقعة.

(3)         مراعاة خصوصية المبدأ القضائي أو القاعدة القانونية أو عموميته عند القيام بصياغته، فهناك قاعدة قانونية أو مبدأ قضائي يطبق على طائفة خاصة من القضايا وليس على جميع القضايا، وهناك قاعدة ومبدأ يطبق على جميع القضايا، فعلى سبيل المثال القاعدة التي تقول ( تستفاد العمدية في القتل من الأداة المستخدمة ومحل الإصابة) فهذه القاعدة لا تنطبق على قضايا القتل التي لا يوجد بشأنها خلاف حول مسألة العمدية، كما أنها لا تنطبق على قضايا القتل التي تكون فيها الأداة قاتلة والاصابة قاتلة الا أن هناك دليل قاطع يثبت الخطأ احتوى عليه ملف القضية، ومن المعيب أن تصاغ قاعدة قانونية تقول (الأصل في القتل العمد ) ثم توضع عبارة بين قوسين مضمونها (في القضية محل النظر) ما يعني أن هذا المبدأ خاص في هذه القضية وحدها، فيجب في هذه الحالات تحديد العناصر الرئيسية للقضايا التي يمكن أن تخضع لهذا المبدأ القضائي أو القاعدة القانونية، لذلك كان من المعيب أن تصدر قاعدة تقول (انتهاء عقد الايجار يلزم المستأجر بإخلاء العين وإلا اعتبر غاصباً) طعن رقم (23762) لسنة 1426 تجاري، فهذا الحكم لا يطبق على جميع عقود الايجار التي تنتهي مدتها الا تلك التي لم تتجدد تجديداً ضمنياً، والعقد في هذه القضية لم يتم تجديده ضمنياً أصلاً، فكان يفضل أن تكون القاعدة بصيغة أخرى وهي (إذا انتهى عقد الإيجار دون تجديد حقيقي أو ضمني لزم المستأجر اخلاء العين المؤجرة ما لم فيعتبر غاصباً).

(4)         أن ينصب الاستخلاص على الفكرة الرئيسية للحكم وترك الأفكار الفرعية ولذلك فإن القاعدة المبينة في الفقرة السابقة الخاصة بعقد الايجار المستخلصة من الحكم الصادر في الطعن رقم (23762) لسنة 1426 تجاري، كان استخلاصها استخلاصاً خاطئاً، فعندما عدنا الى الحكم القضائي الذي تم استخلاص القاعدة منه تبين أن هذا الاستخلاص خاطئ بالجملة فالحكم تحدث عن خطأ حكم محكمة الاستئناف لأنها طبقت على عقد الايجار القانون رقم (19) لسنة 1992م وقام المؤجر بالطعن أمام المحكمة العليا يعيب على محكمة الاستئناف تطبيقها للقانون القديم في حين أن القانون الواجب التطبيق هو القانون المدني رقم (14) لسنة 2002م فقبلت المحكمة العليا الطعن مستندة لنص المادة (755) من القانون المدني التي نصت بقولها (المؤجرات السابقة تسري عليها أحكام هذا القانون)، وبناءً عليه قررت المحكمة قبول طعن الطاعن وإعادة القضية للفصل فيها من جديد باعتبار ثبوت انتهاء عقد الايجار وعدم تجديده وأن هذه المسألة تخضع للقانون الجديد لا للقانون القديم، فكان الأولى في الاستخلاص أن يقال (تسري أحكام عقود الايجار المنصوص عليها في القانون رقم (14) لسنة 2002م بأثر رجعي على عقود الايجار التي نشأت قبل صدوره واستمرت قائمة الى تاريخ صدوره)، ففكرة الحكم في جهة والاستخلاص القاعدة القانونية في جهة أخرى مختلفة تماما رغم أن أساسها مبين نصاً في الحكم المستخلص منه.

(5)         صياغة المبدأ القضائي أو القاعدة القانونية صياغة محكمة منضبطة تشمل كافة عناصر الواقعة باختصار غير مخل وحكم القانون فيها ببيان غير ممل، مع تحري الدقة اللغوية وتحري استخدام المصطلحات القانونية في مواطنها الصحيحة، ولذلك من الخطأ أن يقال في القاعدة القانونية (( قيد المدعي في سجله التجاري مبلغاً لصالح المدعى عليه يعد إقراراً منه ولا تلزم معه اليمين المتممة )) طعن رقم 23805 لسنة 1426 هـ تجاري، لأن السجل التجاري يقصد به السجل الخاص بوزارة التجارة والصناعة التي تقيد به أسماء التجار وطبيعة نشاطهم، أما ما يمسكه التاجر فهي دفاتر تجارية وليست سجلات تجارية، فالمصطلح في القاعدة غير دقيق، ونفس الخطأ تكرر في القاعدة المستخلصة من الحكم الصادر في الطعن رقم (97) لسنة 1425هـ والتي قضت بالقول (متى وجد عقد مكتوب بإنشاء الشركة التجارية عدت الشركة موجودة وعدم القيام بتسجيلها أو اشهارها لا يعفي الشركاء من الوفاء بالتزامتهم الواردة في العقد) فهذه القاعدة تتضمن بياناً مكرراً وكان بالإمكان أن تكون صياغتها كالتالي( عدم تسجيل الشركة وعدم اشهارها لا يعفي الشركاء من الوفاء بالتزاماتهم التي تضمنها عقد الشراكة المكتوب).

(6)         عدم تكرار القواعد القانونية أو المبادئ القضائية التي سبق نشرها على الأقل في الإصدار الواحد، وقد سبق أن أوضحنا في مقال سابق عنوانه (رسالة الى المكتب الفني في المحكمة العليا) هذا العيب وأشرنا لبعض القواعد القضائية المكررة، إلا إذا كان المبدأ القضائي يتضمن سابقة قضائية لأول مرة يتم نشرها، فيجوز تكرار نشرها في اصدارات مختلفة وليس في الاصدار الواحد وذلك حتى تترسخ هذه السابقة في أذهان القضاة والمحامين والمجتمع بصفة عامة.

أخيراً أقول أن صياغة القواعد القانونية والمبادئ القضائية ليست أمراً نظرياً بحتاً، بل هي فوق ذلك مهارات في جوانب مختلفة، مهارات قانونية، مهارات لغوية، مهارات فنية، مهارات فكرية تتضافر جميعها لتقدم لنا مجموعة من القواعد القانونية والمبادئ القضائية الدقيقة.


دمتم برعاية الله 

القاضي مازن أمين عبد الرحمن الشيباني


https://t.me/mazenshaibany

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جريمة خيانة الامانة في القانون اليمني

إستئناف قرارات النيابة العامة

قــرار جمهوري بقانون رقم (14) لسنة 2002م بشــأن قانون مدني