إثبات العقود بالكتابة

*إثبات العقود بالكتابة في القانون اليمني *

*أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين*
*الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء*
https://t.me/AbdmomenShjaaAldeen
➖➖➖➖➖

*▪️هناك عقود شكلية تكون الكتابة جزءاً من شكلياتها مثل عقد الزواج  وغيرها من العقود التي تضع لها الدولة نماذج مكتوبة وتوجب على المتعاقدين إفراغ اراداتهم  كتابة في تلك النماذج، غير ان غالبية العقود لا تكون الكتابة من شكلياتها، ومع  ان الكتابة ليست ركنا او شرطا في العقود إلا أنها وسيلة من أهم وسائل إثباتها حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 18-7-2014م في الطعن رقم (59873)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فكل أسباب الطعن مردودة وفي غير محلها، فلم تكن الشعبة فيما قضت به قد خالفت القانون، إذ أن أحكام المادة (326) تجاري لا تدل على ااشتراط الكتابة في عقد  السماسرة، فنص المادة ورد بصيغة للتعريف بعقد السمسرة فحسب، فلا يفهم من النص لزوم الكتابة، كما ان  عقود السمسرة ليست من العقود الشكلية التي تشترط فيها الكتابة،، فالمعلوم ان الكتابة ليست إلا دليل إثبات في الكثير من العقود التي تصح بدونها، وإن كان الأولى لزوم الكتابة في التعامل بتحرير عقود مكتوبة إثباتا للحقوق ومنعاً للخلاف، وهو ما ندب إليه الشرع، فإذا عدمت الكتابة في العقود غير الشكلية جاز الإثبات بطرق الإثبات الأخرى، وفقاً لأحكام المادة (13) إثبات حفاظاً للحقوق،فالبين للدائرة أنه قد تم إثبات عقد السعاية أو السمسرة بشهادة الشهود، ولذلك فإن الحكم المطعون فيه لم يخالف القانون)) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية:*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الأول: أهمية الكتابة في إثبات العقود والتصرفات:*

➖➖➖➖➖

*▪️من الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم ان تكون آية الدين أو آية التوثيق هي أطول آية في القران الكريم، فقد بينت تلك الآية  إجراءات وكيفية كتابة وتوثيق العقود والإلتزامات والحقوق وشروط المتعاقدين وكاتب العقد وغير ذلك، يقول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه...}[سورة آل عمران آية (282)]  فهذه الآية محل إجماع بين المفسرين على  أنها تفيد أفضلية واولوية إثبات كافة الحقوق والعقود والتصرفات  عن طريق الكتابة باعتبارها وسيلة حاسمة وثابتة ومؤكدة لايعتريها النسيان والقصور والتناقض كالوسائل الشفهية في الإثبات كالاقرار والشهادة، فالاثبات بالكتابة يحول دون الخلاف والنزاع  بين المتعاقدين في المستقبل، ولاهمية الكتابة في الإثبات فقد نزلت آية الدين السابقة على النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم حث فيها الله تعالى أمة العرب التي كانت  حين نزول الآية  أمة أمية ومع فقد حثتهم الآية على كتابة الحقوق والالتزامات والعقود، مع ان الله تبارك وتعالى يعلم أن أمة العرب في عصر التنزيل القرآني كانت أمة أمية لاتكتب قال تعالى(هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم) ومع ذلك فقد حث الله تعالى الأمة  على كتابة عقودها وتصرفاتها، وفي ذلك دليل قاطع على أهمية ومرتبة الكتابة ضمن طرق الإثبات(فقه المعاملات المالية المعاصرة، ا. د. عبدالمؤمن شجاع الدين، ص64)   وقد اتفق الفقهاء على أهمية واولوية الكتابة في إثبات العقود والتصرفات، حيث  ذهبت جماعة من الفقهاء   إلى ان الأمر بالكتابة الوارد في اية الدين للوجوب وذهب  بعضهم إلى ان الأمر للاسترشاد، ولكن أقوال الفقهاء جميعهم قد اتفقت على أهمية وافضلية واولوية إثبات العقود والحقوق بالكتابة لضمان الحقوق وحفظها ومنع الخلاف في المستقبل بين المتعاملين، وهذه الآية الكريمة السابق ذكرها هي أساس قاعدة (ما ثبت كتابة لا يدحض إلا كتابة) كما ان هذه الآية دليل على أولوية الكتابة في إثبات  العقود والتصرفات وانها مقدمة على غيرها في مجال إثبات العقود والتصرفات، وقد اشار الحكم محل تعليقنا إلى ذلك.*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الثاني: الكتابة والشكلية في العقود والتصرفات:*
➖➖➖➖➖

*▪️في بعض العقود تكون الكتابة مظهراً من أهم  مظاهر الشكلية فيها كعقد الزواج الذي ذهب جمهور الفقهاء المعاصرين إلى أنه لا يثبت إلا كتابة لخطورة الآثار المترتبة عليه(فسخ الزواج، ا. د. عبدالمؤمن شجاع الدين، ص75) مع ان الفقهاء قد اجازوا إنعقاد عقد الزواج باللفظ والكتابة، إلا أنهم اشترطوا إثباته بالكتابة  لخطورة الآثار المترتبة على إثباته بغيرها، ولذلك لم يكتف قانون الأحوال الشخصية اليمني بإثبات عقد الزواج بالكتابة بل أنه قد أوجب بنص صريح بأن يتم توثيقه لدى قلم التوثيق خلال شهر حسبما ورد في المادة(14 ) أحوال شخصية، بالإضافة إلى أن الفقهاء المتقدمين قد اشترطوا اشهار الزواج حتى يتم إثباته بالشهرة، فاشترطوا اشهار عقد الزواج في المسجد أ وذهب غالبية الفقهاء إلى أن الشهود والولي  من أركان عقد الزواج،  كما ندب الفقهاء اشهار الزواج عن طريق الوليمة وحفل الزواج حتى يتم اشهاره لخطورة الآثار المترتبة عليه،وخلاصة القول ان كتابة عقد الزواج من مظاهر الشكلية في عقد الزواج، كما تكون الكتابة من مظاهر الشكلية في العقود التي تعد لها الدولة نماذج معينة يجب إتباعها مثل عقد الزواج وعقود المناقصات الحكومية وعقود الشركات وغيرها، وقد اشار الحكم محل تعليقنا إلى أن الكتابة تكون مظهراً من مظاهر الشكلية في بعض العقود إلا أن القانون التجاري الذي نظم السمسرة لم  يشترط أن يكون عقد السمسرة مكتوبا.*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الثالث: الشفهية في إثبات العقود والتصرفات ومخاطرها واسهامها في  تفشي النزاعات والخلافات داخل المجتمع اليمني:*
➖➖➖➖➖

*▪️ليس خافياً ان إعتماد القانون والقضاء اليمني على إثبات العقود والتصرفات عن طريق الأدلة الشفهية في العصر الحاضر من أهم أسباب ظاهرة تفشي وإنتشار الخلافات والنزاعات سواء تلك المنظورة في المحاكم او تلك المنظورة لدى المحكمين أو غيرهم، حيث لم يجرؤا قانون الإثبات على توسيع دائرة الإثبات الكتابي مع أن اصلها راسخ في القرآن الكريم كما سبق بيان، بل قانون الإثبات ينظر إلى الكتابة على أنها مجرد قرينة ، مع ان آية كتابة الدين توحي بان الأصل في إثبات المعاملات المدنية والشخصية(العقود والتصرفات) عن طريق الكتابة هو الأصل، وقد كان موقف قانون التوثيق وقانون السجل العقاري وغيرهما افضل من قانون الإثبات من حيث التعامل مع الكتابة كطريقة من طرق الإثبات، وانطلاقا من قانون التوثيق فقد قامت وزارة العدل بإعداد نماذج نمطية للعقود وكذا وزارة الصناعة بالنسبة لعقود الشركات ووزارة الشئون الاجتماعية بالنسبة لعقود انشاء النقابات والجمعيات حيث اوجبت على المتعاقدين إفراغ إراداتهم العقدية في تلك النماذج ، وكان الأولى ان ينص قانون الإثبات على ان الأصل في إثبات المعاملات والتصرفات المدنية والتجارية والشخصية هو الكتابة، لان المجال الأصلي لتطبيق الأدلة الشفهية كالإقرار والشهادة يكون اصلا في جرائم الحدود والقصاص وغيرها من الجرائم، ولاشك انه يجوز اثبات العقود والتصرفات عن طريق الادلة الشفهية  ولكن ينبغي أن تتقدم في مرتبتها على الكتابة، وعند التامل في قانون الإثبات نجد ان المادة (13) إثبات التي اشار اليها الحكم محل تعليقنا  قد جعلت الكتابة في المرتبة الثالثة ضمن طرق الإثبات، حيث نصت هذه المادة على أن: (طرق الإثبات هي:-1- شهادة الشهود -2- الإقرار -3- الكتابة...) كما أن قانون الإثبات ينظر ويتعامل مع الكتابة على أنها مجرد قرينة!!!؟، فالمتأمل لكتابات الفقهاء المتقدمين عن الإثبات في مجال المعاملات المدنية والشخصية والتجارية يجد أن تلك الكتابات كانت تتناول واقع المعاملات في تلك العصور التي لم تكون الدولة قد تدخلت في تنظيم العقود والتصرفات، فقد كانت كتابات الفقهاء المتقدمين في تلك العصور مناسبة لواقع المعاملات في تلك العصور التي كانت فيها الحقوق والمصالح غير معقدة وغير متشابكة، كما كان غالبية المتعاملين بتلك المعاملات من أهل التقوى والصلاح والوفاء، أما في العصر الحاضر فقد تغيرت الأحوال والانفس مما يستدعي اللجوء إلى الكتابة في مجال المعاملات المدنية والتجارية والشخصية، فلا ينبغي النظر إلى الكتابة في الإثبات في هذا المجال على أنها مجرد قرينة، فالمجال الأصلي للأدلة الشفهية (الإقرار والشهادة) هو في الحدود والقصاص حيث وردت بشأنها نصوص قطعية أوجبت إثباتها عن طريق الشهادة والإقرار، ولذلك كان الإثبات في الشريعة الإسلامية متوازناً غاية التوازن حيث جعلت الشريعة الإثبات في الحدود والقصاص مقيداً بالشهادة والاقرار وأطلقت الشريعة الإسلامية السمحاء حرية الإثبات في غير الحدود والقصاص (التشريع الجنائي، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين، ص140).*
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الرابع:  إثبات العقود عن طريق الكتابة:*
➖➖➖➖➖

*▪️صرح قانون الإثبات بذلك حسبما ورد في المادة (13) التي اجازت الإثبات في المعاملات والعقود بأي طريقة من الطرق المقررة كالشهادة والإقرار والكتابة واليمين وردها والنكول عنها والقرائن الشرعية والقضائية ومعاينة تقارير الخبرة واستجواب الخصوم، وقد صرح الحكم محل تعليقنا بحرية إثبات العقود بأي طريقة حفظاً للحقوق وأستند الحكم إلى المادة (13) إثبات السابق ذكرها، وقد أشار الحكم محل تعليقنا إلى أن الأصل حرية إثبات العقود والتصرفات بأي طريقة من طرق الإثبات المقررة في المادة (13) إثبات، طالما أنه لم يرد نص خاص يقيد الإثبات بالكتابة، واشار الحكم محل تعليقنا إلى أن المادة (326) تجاري التي نظمت عقد السمسرة لم تصرح بأن عقد السمسرة يكون كتابياً، ويؤيد قضاء الحكم محل تعليقنا القول: بان الكتابة ليست ركناً أو شرطاً في عقد السمسرة أو العقود المالية حسبما كان يعبر الفقهاء المتقدمين، وإنما دور الكتابة هو التوثيق والاثبات، ونحن لانعارض حرية إثبات العقود والتصرفات الا ان نعترض على المرتبة التي وضع فيها قانون الإثبات الكتابة وايضا نظرة قانون الإثبات وتعامله مع الكتابة كمجرد قرينة!!!!؟.
➖➖➖➖➖
*▪️الوجه الخامس: الكتابة  وتوثيق العقود والتصرفات:*
➖➖➖➖➖

*▪️من ضمن مظاهر إهتمام الدولة اليمنية بالكتابة في مجال العقود والتصرفات هو صدور قانون التوثيق وقانون السجل العقاري وغيرهما التي حفزت المواطنين على كتابة العقود والتصرفات وتوثيقها وتسجيلها حتى تكون محررات رسمية لها الحجية القانونية المطلقة في مواجهة الكافة بإعتبارها محررات رسمية، فكان ينبغي على قانون الإثبات ان ينحو إلى هذه الناحية من حيث تحفيز المتعاملين على كتابة وتوثيق تصرفاتهم، والله اعلم.*

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جريمة خيانة الامانة في القانون اليمني

إستئناف قرارات النيابة العامة

قــرار جمهوري بقانون رقم (14) لسنة 2002م بشــأن قانون مدني