إثبات الجرائم بصور كاميرات المراقبة

إثبات الجرائم بصور كاميرات المراقبة 
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين 
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
تنتشر كاميرات المراقبة في كل الشوارع والاحياء والمحلات والعمارات فهي ترصد افعال وحركات وتصرفات المشاة ومرتادي المحلات وغيرها ،وهي توثق وتحفظ صور الحوادث والوقائع التي تقع في الشارع وغيره على مدار الساعة ، كما أنها تنقل نقلاً امينا وصادقا ومحايدا مايجري في  الأماكن والشوارع وغيرها من وقائع وحوادث ومن ذلك حوادث القتل وغيرها من الجرائم، ويحمد للدولة انها الزمت الاشخاص والجهات على تركيب هذه الكاميرات في كل مكان  لما  لذلك من أهمية وضرورة في إثبات الجرائم حتى لا يفلت الجناة من العقاب لعدم توفر الأدلة، إلا أن قانون الإثبات اليمني المتخلف لا يجاري وسائل الإثبات الحديثة بل ان هذا القانون المتخلف قد تراجع في تعديلات 1998م  إلى الوراء ونكص على عقبيه،فقانون الإثبات يقصر الاثبات بالقرائن ومن ضمنها الصور التي تلتقطها كاميرات المراقبة  يقصىرها على الحقوق والاموال حسبما ورد في المادة 157 اثبات،فلاشك أن منع اثبات جرائم الدماء بالقرائن يهدر الدماء ويشجع القتل ويدعم القتلة ويساعدهم على الإفلات من العقوبة خاصة القتل العمد الموجب للقصاص، ولذلك تتكرر في الأحكام عبارة  (لعدم ثبوت الدليل الشرعي الموجب للقصاص) ولذلك زاد القتل  وتجرأ القتلة على إزهاق النفوس البريئة، وقد كشف الحكم محل تعليقنا عورة قانون الإثبات الذي يتسبب في إهدار الدماء التي عصمها الله ،حيث اظهر الحكم محل تعليقنا كيف  وقف القضاء حائراً بين الحكم بالقصاص استناداً إلى تصوير كاميرات المراقبة لثلاث جهات مختلفة (وزارة ... وبنك ... وشركة ...) التي تساندت صورها في تصوير وتوثيق عملية قيام الابن (عاق والديه) وزوجته أي زوجة الابن برمي جثة الأب القتيل من سيارتهما امام منزل الاب بعد ان قتله الأبن العاق  عندما كان الأب ذاهبا لأداء صلاة الفجر!!! حسبما ورد في أسباب الحكم الابتدائي،  فالحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 5/12/2018م في الطعن رقم (62071), وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان النيابة العامة قامت بمخاطبة ثلاث جهات(وزارة وبنك وشركة ) التي مقارها جوار مسرح الجريمة فطلبت النيابة من هذا الجهات موافاتها بصور كاميرات المراقبة المنصوبة في تلك الجهات ليومي...،  ومن خلال استعراض النيابة والمحكمة الابتدائية لصور كاميرات الجهات الثلاث فقد ظهر للمحكمة ان الكاميرات  الثلاث المنصوبة في   الجهات المشار اليها  اظهرت صورها دخول سيارة المتهمين الى الشارع الخلفي وقيام المتهمين بإخراج جثة الأب القتيل من السيارة وإلقائها امام منزل الاب وانطلاق السيارة بعد ذلك بسرعة جنونية، وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي ان اوصاف السيارة التي ظهرت في الصور تنطبق تماماً على سيارة المتهمين الأبن وزوجته كما ورد في اسباب الحكم الابتدائي ان كميات كبيرة من الدماء قد تم العثور عليها داخل سيارة المتهمين وفي مقابض ابوابها وان تلك الدماء هي دماء الأب القتيل حيث قام الابن  بتهشيم رأس ابيه بالمطرقة كما ورد في اسباب الحكم ان الابن كان قد هدد الاب قبل الواقعة لحمل الاب على منحه مبلغ... كما ورد في اسباب الحكم ان الابن كان قد سرق على الأب قبل الحادث مبلغ... كما ورد ضمن أسباب الحكم ان هناك شهود شاهدوا سيارة المتهمين تدخل مسرعة إلى الشارع الخلفي وتلقي جثة الأب القتيل وغير ذلك من القرائن التي ساقها القاضي الابتدائي في أسباب حكمه حيث  وقف القاضي الابتدائي حائراً بين سندان الحق الذي ظهر له جلياً وبين مطرقة قانون الإثبات  الذي غل يد القاضي وقيدها فلم  يجد القاضي من وليجة إلا ان يحكم بإدانة الأبن العاق وزوجته بالقتل العمد والزامها بدفع دية العمد  المغلظة لسقوط القصاص وقد وردت ضمن أسباب الحكم العبارة المعتادة (لعدم توفر دليله الشرعي) ولم تكن الشعبة الجزائية اوفر حظا من المحكمة الابتدائية حيث اضطرت الشعبة  إلى تطبيق قانون الإثبات وتأييد الحكم الابتدائي (لعدم توفر الدليل الشرعي لثبوت القصاص) وكذلك الحال لم تجد الدائرة الجزائية مجالاً امامها إلا أن تحكم بإقرار الاستئناف (لعدم توفر الدليل الشرعي لثبوت القصاص)، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (وبتأمل هذه الدائرة لما اثاره الطاعنون تبين ان الحكم الاستئنافي وقبله الحكم الابتدائي قد استندا في حيثيتهما التي تم استعراضها انفاً إلى ادلة سائغة قانوناً وكلها تؤكد قيام المحكوم عليهما بما نسب اليهما في قرار الاتهام وقائمة أدلة الإثبات وهو قتل المجني عليه والتخلص من جثته إلا أن تلك الأدلة لا ترق إلى الحكم عليهما بالقصاص الشرعي وفقاً لما اشترطته المواد (234) عقوبات و (45 و 87) إثبات الأمر الذي يتعين معه إقرار الحكم الاستئنافي ورفض طعن. اولياء الدم موضوعاً) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية : 

الوجه الأول : الوضعية التقنية لكاميرات المراقبة : 

كاميرات المراقبة تقوم برصد التحركات والاحداث  والوقائع التي تقع   ضمن نطاق او مدى رصدها او مراقبتها، وميزة كاميرات المراقبة انها لاتخضع لتدخلات المصورين ورغباتهم وتوجيههم، فالكاميرات لا تحتاج إلى اشخاص يديرونها ويتحكمون في مدخلاتها ومخرجاتها، ولذلك فهي اكثر حيادا واماناً من كاميرات التصوير الفيلمي او الفوتوغرافي التي قد تتعرض لتدخلات وتوجيهات المصورين والمنتجين والمخرجين والطابعين لها، فكاميرات المراقبة تظهر  وتبين الأحداث والأفعال التي تتم في المكان ضمن مداها الجغرافي فتظهر المكان والاحداث التي  تتم فيه وساعة وقوعه وتاريخ حدوث الافعال وطريقة الحدوث، وتبين كافة تفاصيل الحدث الذي وقع بالصورة المتحركة التي تكون اكثر بياناً ووضوحاً واستمرارية ،فهي تظهر الحدث كما لو ان القاضي او عضو النيابة او مأمور الضبط كان حاضراً ساعة وقوع الحادث، وتصل نسبة الضبط والصحة فيها إلى 95%(حجية المستخرجات الصوتية والمرئية،نوف العجارمة،ص82).

الوجه الثاني : صور كاميرات المراقبة وشهادات الشهود : 

من خلال ما تقدم ذكره في الوجه الأول نجد ان نتائج مستخرجات كاميرات المراقبة تشابه إلى حد كبير  مشاهدات الشهود للحادث وقت وقوعه بل ان مخرجات كاميرات المراقبة تكون اكثر ضبطاً ودقة من شهادات الشهود التي يعتريها النسيان والهوى، ولذلك تحرص الدول والشركات والمواطنين على نصب كاميرات التصوير في كل مكان لقوتها الثبوتية، فلو لم يكن لصورها حجية او قوة ثبوتية عالية لما تم نصبها. 

الوجه الثالث : شبهات على الإثبات بصور كاميرات المراقبة وردود على تلك الشبهات : 

من الشبهات التي يرددها خصوم الإثبات بكاميرات المراقبة ان الصور قد تكون عرضةً للدبلجة والتغيير، وذلك يسرب الشك إلى حجيتها، ويرد على ذلك بان كاميرات المراقبة ليست الآت تصوير يتم توجيه الصور والتقاطها بحسب ارادة المصور،فصور كاميرات المراقبة على خلاف الآت التصوير الاخرى، فكاميرات المراقبة لا تخضع لمؤثرات المصور او المنتج او المخرج للصور كما انه يمكن عرض الفيلم المستخرج من كاميرات المراقبة على الشركة المصنعة أو وكيلها في اليمن كي تبدي رأيها من حيث مدى سلامة الصور الواردة في الفيلم  وانها لم تتعرض للدبلجة او التلاعب، ايضاً يردد خصوم الإثبات بمخرجات كاميرات التصوير يرددوا شبهة ان التصوير الفيلمي بهذه الكاميرات يترتب عليه  انتهاك خصوصبة الناس وتصويرهم من غير موافقتهم  إضافة إلى ان التصوير لم  يسبقه صدور  إذن من قبل النيابة العامة ولذلك فان هذا الدليل غير قانوني، ويرد على ذلك بان إتخاذ كاميرات المراقبة من الامور التنظيمية التي تتخذها الحكومات والجهات لمواجهة اساليب الإجرام المتطورة حتى تتناسب اساليب مكافحة الجريمة مع التطورات التي تطرا على فنون الإجرام والمجرمين كما ان اتخاذ هذه الكاميرات فيه مصلحة للامة حيث تمنع غالبية الناس من إرتكاب الجرائم كما ان هذه الكاميرات تقدم مساهمة فاعلة وعملية وسريعة لإثبات الجرائم وحفظ الدماء والأموال والاعراض، ولذلك فهي تحقق مقاصد الشريعة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد (حجية المستخرجات الصوتية والمرئية في الإثبات الجزائي، نوف العجارمة، صـ89). الوجه الرابع : إثبات القصاص وغيره من الجرائم عن طريق كاميرات المراقبة : 

من المقرر ان مستخرجات كاميرات المراقبة قرينة قاطعة تدل قطعا ويقينا ً على الفعل او الحدث الذي تسجله او توثقه الصور المستخرجة من تلك الكاميرات حسبما سبق بيانه، ولذلك فان إثبات القصاص بالقرائن ومن ضمنها التصوير كان محلاً للخلاف بين الفقهاء الذين اختلفوا بشأن إثبات القصاص بالقرائن في اواخر القرن التاسع عشر حينما تم إعداد مجلة الأحكام العدلية العثمانية حيث تم الاخذ بالقرائن لإثبات القصاص بعد ان ازدادت حوادث القتل العمد وتساهل الناس فيه لتعذر إثباته عن طريق الشهادة والإقرار، وقد استدل الاتجاه الذي ذهب إلى جواز إثبات القصاص بالقرائن  بان إلحاق القصاص بالحدود من حيث الدرء بالشبهات كان اجتهادا فقهيا وليس نصا شرعيا ، لأن النص ادروا الحدود بالشبهات  خاص بالحدود   حيث لايجوز إثبات الحدود بالقرائن لأنها شبهات،فإلحاق القصاص بالحدود في هذه المسالة كان اجتهاداً في الفقه الإسلامي وليس نصا شرعيا، لان حديث ادروا الحدود بالشبهات تناول الحدود فقط التي لا يجوز إثباتها بالقرائن او الشبهات (اصول النظام الجنائي الإسلامي، د. محمد سليم العواء، صـ121)، اما إثبات الجرائم الأخرى غير الحدود عن طريق مستخرجات كاميرات المراقبة فلا خلاف بين الفقهاء في جواز الإثبات به، لانه من الجائز عند جميع الفقهاء إثبات الجرائم الأخرى  غير الحدود والقصاص بالقرائن مطلقاً ومن ضمنها التصوير بواسطة كاميرات المراقبة. 

الوجه الخامس : (الدليل الشرعي المثبت للقصاص) المذكور في المادة (234) عقوبات : 

وردت ضمن نص المادة (234) عقوبات عبارة (ويشترط للحكم بالقصاص ان يطلبه ولي الدم وان يتوفر دليله الشرعي) فالمقصود بالدليل الشرعي في هذا النص هو دليل إثبات القصاص وذلك يحتم الرجوع إلى قانون الإثبات الذي نظم طرق الإثبات عامة في المسائل الجنائية والمدنية والتجارية والشخصية وغيرها، وقد تناقض قانون الإثبات في  إثبات القصاص بالقرائن ومن جملتها التصوير أو التسجيل حيث يفهم من المادة (155)  جواز اثبات القصاص بالقرائن لأن هذه المادة ذكرت القرائن القضائية القاطعة وضربت امثلة للقرائن القاطعة ومنها ما تستنبطه المحكمة من ظروف واحوال الواقعة كخروج شخص من داره في يده سكين تقطر دماً او مسدس او بندقية مع وجود قتيل في تلك الدار ليس بها غيره، وبموجب  المادة (157) اثبات فأنه يجوز للمحكمة ان تأخذ بالقرينة القاطعة القضائية وان تعتبرها دليلاً كاملاً حيث  يفهم من هذين النصين معاً جواز إثبات القصاص بالقرينة القضائية القاطعة كصور كاميرات المراقبة، إلا أن قانون الإثبات ناقض نفسه حينما نص في المادة (157) على حصر الإثبات بالقرائن القضائية القاطعة على (الأموال والحقوق) أي انه لا يجوز إثبات الحدود والقصاص عن طريق القرائن وهذا تناقض ظاهر، ونص المادة157 اثبات هو الذي يمنع القضاة من إثبات القصاص بالقرائن ومن ضمنها صور كاميرات المراقبة مثلما حصل في القضية التي تناولها  الحكم محل تعليقنا. 

الوجه السادس : توصية للجهة المعنية : 

اوصي مخلصاً بتعديل المادة (157) إثبات بحذف عبارة (الأموال والحقوق) كما اوصي بتعديل قانون الإثبات لاستيعاب وسائل الإثبات الحديثة، علماً بأني قد درست دراسة وافية مشروع قانون الجرائم المعلوماتية الذي تم إعداده موخرا فوجدت انه لم يعالج هذه المسألة وانه تضمن مصطلحات في علم الاتصالات  جعلت المشروع غامضا،والله اعلم. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جريمة خيانة الامانة في القانون اليمني

إستئناف قرارات النيابة العامة

قــرار جمهوري بقانون رقم (14) لسنة 2002م بشــأن قانون مدني